أ. أصل الميديين و تأريخهم [size=24]
المانيون هم أحد الشعوب القديمة التي إستوطنت أذربيجان الإيرانية الحالية في الفترة مابين القرن العاشر قبل الميلاد و القرن السابع قبل الميلاد و قد ورد ذكرهم في العهد القديم في الكتاب المقدس. كان المانييون مجاورين للآشوريين ودولة أرارات. لم يكونوا من الشعوب الهندو - أوربية ولم يكونوا خاضعين لسيطرة الإمبراطوريات المجاورة.
إستنادا الى العهد القديم من الكتاب المقدس، فأن الميديين ينحدرون من سلالة يافث إبن نوح. الميديون هم شعوب آرية (هندو- أوربية)، كانوا يتكلمون اللغة الهندو- أوربية. هاجرت هذه الشعوب من شرقي البحر الأسود في بداية الالف الثانية قبل الميلاد إلى المناطق الممتدة من كوردستان الى الهند، وإن كان نزوحهم للهند مؤرخ بنحو 1600 قبل الميلاد. الميديون كانوا يقطنون في إقليم بخار وسمرقند، وإنهم توغلوا منه نحو الجنوب شيئاً فشيئاً حتـى وصلوا الى كوردستان الحالية، فوجدوا النحاس والحديد والرصاص والذهب والفضة والرخام والحجارة الكريمة في الجبال التي إتخذوها موطناً جديداً لهم. ولما كانوا قوماً أشداء بسطاء في معيشتهم فقد أخذوا يفلحون أرض السهول وسفوح التلال وعاشوا فيها عيشة رخية.
إن أول ذكر للميديين في السجلات الآشورية كان أيام الملك الآشوري "شلمنصر الثالث" في سنة 835 قبل الميلاد، حيث كان هذا أول إحتكاك بين الميديين و الآشوريين الذين كانوا آنذاك منشغلين بتوسيع إمبراطوريتهم. موطن الميديين حسب الجغرافية الحالية تشمل طهران و همدان و أصفهان و أذربيجان و منطقة كاردوخ. يذكر المؤرخ اليوناني "هيرودوت" بأن الميديين كانوا مؤلفين من ستة قبائل رئيسة وهم بوزا و باريتاك و ستروخات و آريا و بودي و موغي وأطلق هيرودوت إسم الآريين على القبائل الميدية.
من جهة أخرى، يذكر د .زيار في كتابه "إيران...ثورة في إنتعاش"، بأنه بحلول سنة 1500 قبل الميلاد، هاجرت قبيلتان رئيسيتان من الآريين من نهر الفولغا شمال بحر قزوين وإستقرتا في إيران وكانت القبيلتان هما الفارسيين و الميديين. أسس الميديون، الذين إستقروا في الشمال الغربي، مملكة ميديا. وعاشت الأخرى في الجنوب في منطقة أُطلق عليها الاغريق فيما بعد إسم "بارسيس" ومنها إشتق إسم فارس. بينما يرى المؤرخ محمد أمين زكي، بإن هناك إحتمالاً كبيراً بأن هذه المجموعة تشكلت من عدة قبائل مثل "لولو و كوتي و كورتي و جوتي و جودي و،كاساي و سوباري و خالدي و ميتاني و هوري و نايري". يقول ابن خلدون بأن الكورد منحدرون من الميديين و يذكر حسن بيرنيا في كتابه المعنون "تاريخ ( إيران باستاندا )" بأن الميديين هم من الشعوب الآرية و هم أجداد الكورد ولغتهم هي نفس لغة الكورد الموكريانيين و في كتابه "عشق وسلطنة" يقول بأن لغة الماديين هي لغة كردية. كما يشير مردوخ الى أن السلطان الأول للميديين هو "آراماس" و المعروف عند اليونانيين ب"ديوكس". يقول دومركان بأن الميديين كانوا موجودين منذ أكثر من 2000 سنة قبل الميلاد و أسسوا إمبراطوريات وسلطنات كثيرة و عُرفت عن حروبهم و شهرتهم وتفوقهم منذ سنة 700 قبل الميلاد. .يقول المؤرخ اليوناني "كيتزياس" بأنه تعاقب على حكم الإمبراطورية الميدية عشرة سلاطين وكان آخرهم (آستي كاس) و أن الإمبراطورية الميدية دامت لمدة 350 سنة. بهذه الأدلة يتأكد وجود الكورد تاريخياً منذ زمن طويل.
نستنتج مما تقدم بأن الشعب الكوردي ينحدر من مجموعتين من الشعوب، المجموعة الأولى (المانيون) التي كانت تقطن كوردستان منذ فجر التاريخ و ُيسمّيها المؤرخ الكوردي محمد أمين زكي ب"شعوب جبال زاكروس" التي لم تكن شعوب هندو – أوروبية. إمتزجت الشعوب الأصلية في المنطقة مع أقوام آرية (هندو- أوربية)، مثل الميديين، التي تُشكّل المجموعة الثانية من الشعوب المكوّنة للشعب الكوردي والتي هاجرت من شرقي البحر الأسود إلى كوردستان واستوطنت فيها مع شعوبها الأصلية. كان هذا الشعب غير متنقل بل ثابتاً في بقعته الجغرافية وكان يعتمد في معيشته على الزراعة و تربية المواشي.
تعد الإمبراطورية الميدية من إحدى الإمبراطوريات العظمى في التاريخ القديم التي أقيمت على أرض كوردستان الحالية ولعبت دوراً كبيراً في نشوء الحضارة الإنسانية في المنطقة التي كانت تُعرف قديماً لدى اليونانيين بإسم "ميزوبوتاميا" التي كانت تُطلق على الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات. مساحة كوردستان الحالية تقلصت كثيراً، مقارنة بالأراضي التي كانت تُشكّل الإمبراطورية الميدية.
إن مركز هذه الإمبرطورية العظيمة كان في مدينة همدان الإيرانية الحالية و التي تقع في موطن الفيليين. من هنا ندرك أن الفيليين هم المؤسسون لهذه الإمبراطورية التي كانت أعظم و أكبر إمبراطورية في المنطقة في ذلك الوقت و يعني أيضاً أن الشريحة الفيلية هي أحفاد الميديين و أن جذور الفيليين في المنطقة (في كل من العراق و إيران الحاليتين) هي جذور عميقة بعمق التأريخ نفسه.
حدود الإمبراطورية و عاصمتها
كانت تحد ميديا من الشرق أفغانستان، بل كان بعض أراضي أفغانستان جزء من ميديا، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط ومن الشمال مناطق "كادوس" فيما وراء نهر "آراس" ومن الجنوب الخليج الفارسي. كانت الإمبراطورية الميدية تضم كلاً من فارس و أرمينيا و آشور و عيلام و هيركاني و جزء من باكستان على المحيط الهندي و شمالي شرقي سوريا وكانت تعيش في ظل حكمها أقوام مثل "سورميد" و هوريون و أوراراتيون و ميتانيون.
العاصمة "جه مه زان" تعني مكان الاجتماع في اللغة الكردية وإستُخدمت أحياناً اسم "هيكمه تانا"، إلا أنها إشتهرت بإسم "آكباتان" وهذه التسمية أطلقها عليها اليونانيون وقد تم تثبيتها في المراجع اليونانية بهذا الإسم. كما أن كلاً من "زينفون" و "هيرودوت" وغيرهما، يشيرون إليها بهذه التسمية و أن موقعها يقع بالقرب من مدينة "همدان" الإيرانية الحالية. إسم همدان مأخوذ من إسم عاصمة الميديين (مصادر أخرى تذكر بأن مدينة همدان الحالية هي نفسها مدينة آكباتان الميدية). نجح علماء الآثار في العثور عليها وتمكنوا من إزالة الأتربة عنها وهي مدينة ضخمة ً وتتميز بأسوارها النادرة التي تتألف من سبع أسوار عالية وعريضة على شكل صفوف متراصة وهي تحيط بالمدينة. السور السابع هو أعلى من السادس والسادس هو أعلى من الخامس و هكذا بالنسبة الى الأسوار الباقية.
نشوء الإمبراطورية الميدية
بدأت قبائل الميديين تتجمّع لتؤسّس أول إمبراطورية معروفة لها في حدود عام 708 قبل الميلاد. وقع إختيارهم على رجل كان يتولى منصب العمدة في إحدى القرى الميدية و كان إسمه "دياكو Diyaoku" (كيقباد) (727 – 675 ق . م)، و كان الأغريق يُسمّونه ب"ديوكس Deioces"، ليكون ملكاً عليهم. هذا الإختيار تم نظراً لإشتهار دياكو بالحكمة والحكم العادل عند فصل المنازعات، حيث كانت القبائل الميدية تلجأ إليه لحل مشاكلها الإجتماعية و الإقتصادية. كان دياكو أول حاكم ميدي منتخب معروف (كان الميديون ينتخبون ملوكهم، كما يذكر هيرودتس). إختار دياكو "آكباتان" لتكون عاصمة لمملكته (وهى مدينة همدان الحالية و تعني "محل الإجتماع"، بينما مصادر أخرى تذكر بأنها تقع بالقرب من مدينة همدان الحالية)، حيث قام بتحصينها للتمكن من مقاومة أي غزو أجنبي. في "آكباتان"، أي في ملتقى الطرق الكثيرة الواقعة في واد جميل المنظر أخصبته المياه الذائبة من الثلوج المغطية لقمم الجبال، أنشأ (دياكو) عاصمته وزينها بقصر ملكي يشرف عليها و الذي كانت تبلغ مساحته حوالي 1.73 كيلومتر مربع.
بدأ دياكو بتوحيد المملكة التي كانت تتألف من منطقة واسعة تقطنها القبائل الكوردية "بوسيون و آريزانتو و بارتاكتي و بوديون و موغ و ميتاني" و باشر ببرنامج لتوحيد جميع سكان ميديا ضد الهجمات المتواصلة للقوات الامبراطورية الآشورية الحديثة (745 – 606 ق.م.) التي كانوا يتعرضون لها. تم قتل الملك دياكو من قِبل الآشوريين، حيث تآمروا عليه بدعوته الى وليمة و تم قتله هناك خلال تلك الوليمة.
بعد دياكو، تسلم الحكم الملك "خشتاريتي Khashtariti " (675 -653 ق . م) أو "خشاتريتا Khshatrita" باللغة الأكدية، بينما يسمّيه المؤرخ اليوناني هيرودوت ب"فراورتيش (Phraortes". بدأ حكمه بسياسة المجاراة و المهادنة مع الحكومة الآشورية. هذه السياسة ساعدته في زيادة نفوذه بين الشعوب الآرية، حيث كانت شعوب آرية قد قدمت من الشرق و إنضمت الى الميديين، وجّه خشتاريتي أنظاره نحو قبائل الفرس الأخمينيين، فقاد حملة عسكرية لإخضاع مملكتهم و نجح في مسعاه، حيث أخضع الفرس للحكم الميدي و بذلك إستطاع توحيد الميديين والفرس. كما أن إنهاكْ سرجون لقبائل "الأُورارتيين Ourartens" و "المعانيين Manens" بحملاته وغزواته المستمرة عليهم، قد ساعدت الميديين على التوسّع نحو الغرب وإحتواء هؤلاء في مملكتهم الفتية بمساعدة السيمريين – Cimmerians، في عام 670 ق.م. كل هذه التطورات الإيجابية دعت الميديين الى الإمتناع عن دفع الجزية للآشوريين، التي كانوا يدفعونها مضطرين خلال فترة زمنية طويلة. بعد ذلك قام الملك الميدي بحملة عسكرية في هجوم كبير على مدينة نينوى عاصمة الآشوريين ولكنه مات أثناء محاصرتها ولم يتحقق حلمه في توسيع إمبراطوريته و إبعاد الخطر الآشوري عن شعبه.