لم تكن الجزيرة العليا، وكوباني، وكرداغ، ترتبط تاريخيا بسوريا التي نعرفها اليوم، وهي منذ بداية العهد العباسي أجزاء تاريخية من أراضي ولايات الموصل وديار بكر والرها وكانت ترتبط من الغرب الى الشرق، من أنطاكية الى الدجلة ، بمراكزها التجارية القائمة اليوم على الطرف الآخر من الحدود السورية التركية وترى أغلبها بالرؤية المجردة. في حين أن بلاد الشام كانت تتشكل من سوريا الداخلية زائد حلب وفلسطين والأردن كما لم تعرف سوريا بحدودها الحالية يوما ككيان سياسي.
أن ملفات تموضع القبائل الكردية في الدولة العثمانية تبرز بوضوح مناطق انتشارها وهي بمجملها تتمحور في الحدود الوهمية التي تحدث عنها وحولها أغلب المؤرخين يكفي للدلالة أن اسم الرقة يأتي مرادفا لسكن قبائل كردية أكثر من 50 مرة .
لقد تطابقت ملاحظات الرحالة والمستشرقين ومنهم السير مارك سايكس نهاية القرن التاسع عشر، وخرائط نيهبور 1769، والحالة التي وجدتها الإدارة الفرنسية على الأرض للعشائر الكردية في كرداغ وكوباني والجزيرة العليا ، وحددوا تموضعات للعشائر الكردية على الشكل الذي لازال قائما الى اليوم من الشرق الى الغرب:
في الجزيرة العليا: ملان ، آشيتان، وهفيركان ، ألي بناريان، ميرسينيان، دقوران و كيكان، مللان ابراهيم باشا. وفي كوبانة: برازي ،وشيخان وكتكان. في كرداغ: شيخان هجروا من كوبانة وجوم استقدموا سنة 1797 من منطقة قونية بأمر من السلطان سليم الثالث وخوجة إزادينان حول نهر قرة سو، وكوجر وشيخان هجروا اليها من حدود أيران، وأميكان وهم قزلباش علويون منذ القرن السادس عشر."
يرجع الاستقرار العربي المتناثر لمنطقة الجزيرة العليا فضلا عن جماعة الحرب والشرابية والسادة الى مرحلة الانتداب، كما يعود الى فرقة الهجانة خيالة النوق Méhristes التي شكلها جيش الانتداب من بدو الشامية والتي أستقرت في القشلة العثمانية التي أصبحت فيما بعد مركزا لمدينة الحسجة، بعد معركة بياندور مع المسلحين الكرد. ومن حول هذه القشلة تم اسكان عرب قادمين من دير الزور ومسيحيين جلهم عرب مستقدمين من ماردين وريفها.
أما العشائر العربية التي كانت ترتاد المراعي الكردستانية صيفا لوفرة مزارع القمح والمياه الجوفية والعذبة فتمثلت في الشمر والجبور والعكيدات آتين من بواديهم في الشامية والحماد والعراق تحل صيفا وتغادر أوائل الخريف ، أصبحت اليوم المواطن السيد فئة أولى.
أن استقرار القبائل والجماعات الكردية نصف الرعوية نصف الزراعية ـ والتي تحضرت بكثافة منذ بداية القرن التاسع عشر ـ في هذا الجزء من كردستان التاريخية يتماشى وطبيعة الأرض والاقتصاد الزراعي الرعوي وامتداد الأنهار من منابعها الكردستانية الشمالية ( جايي كرداغي ودشتا عينتابي ودشتا ديار بكر ومارديني وجايي مازي ) المنحدرة باتجاه الجنوب وهي الأنهار من الشرق الى الغرب: الدجلة، وانيك، جمة تربة سبية ، جقجق، جمة عامودة، شكالو، زركان ، خابور، جمي كول آفي، فرات وعفرين، وقرة سو، وعلى هذه الأنهار قامت المراكز السكانية الكردية: جزير، عين ديوار، ديريك، تربة سبية، قامشلي نصيبين، عامودة، دربيسية قرة مانة، سري كانية ، كوبانة، وعفرين .
ومن الجدير بالذكر الإشارة الى تجمعات كردية خارج كردستان في الداخل السوري يعود الى حقبات العصورالأموي" 2" المتأخروالعباسي والأيوبي والعثماني وأهما البرازية في حماة، وسكان جبل الأكراد والصالحية في دمشق وحصن الأكراد وبعلبك.
أن الوجود الكردي في سوريا وغيرها من الدول التي تقاسمت كردستان أصبح ثوابت جيوسياسية، من ثوابت الشرعية الدولية التي لم تعد ترى من الحكمة ما يستوجب اعادة رسم الخرائط، وهي قد تكون محقة لكن هذا لا يلغي أن هذه الحكمة تقتضي أن تنظر بالحكمة الى أن استمرار استعباد الشعوب بالشكل الذي يتم في الشرق الأوسط لم يعد إنسانيا ويفتقد الشرعية الحقوقية كما يفقد الشرعية الدولية المصداقية والحكمة معا بتجاهل حق الشعوب وثقافاتها بالإهمال المتعمد، في تنزيه أعمال الحكومات الاستبدادية المتلطية وراء سياسات شوفينية مقيتة باعتبارها شرعة دول ذات سيادة، وهي تزيد من تعقيد مشاكل هذه البلاد أكثر فأكثر بالإختناقات الديكتاتورية واللاديمقراطية التي تعاني منها تركيا وسوريا والعراق وأيران.
لعب الكرد السوريون ـ الذين منعوا حقهم التاريخي بكردستان كيانا سياسيا ـ، دور عنصر استقرار في الدولة السورية التي استقلت تحت مسمى دستوري عرف بالجمهوريـة السوريـة 1946. ساهموا بدور أساسي في حماية الجماعة المسيحية التي تعاونت مع الإنتداب وشرعت لتلك الحماية من خلال مؤسسة الكريف والإحتماء العشائري والتي تلزم الكردي حماية المسيحي من أي انتقام أو إكراه في غوغاء الاستقلال عن دولة فرنسا المسيحية.
مع جلاء الجيوش الفرنسية البريطانية سنة 1946 عن سورية آلت السلطة الفعلية الى أسر ونخب برجوازية واقطاعية استلهمت إدارة عصرية تحت الانتداب وهي أسر تنتمي الى الطيف الإثني الذي تكونت منه سوريا الحديثة : من عرب وكرد وتركمان وجراكسة وتغالبة مسيحيين ومسلمين: كيخيا والداماد والقوتلي وهنانو والجابري والأتاسي ونظام الدين والعظم والعظمة ومردم بيك والخوري والزعيم والحناوي وزلفو والبرازي والشيشكلي. أدارت هذه النخبة السياسية أمور البلاد بالحكمة التي رأت في المساواة بالديمقراطية فضيلة أجمل من القهر القومي بالتمييز.
ومن المفارقات العجيبة، أن انتخابات سنة 1943 أوصلت الى البرلمان السوري 8 نواب أكراد في حين تمنع سياسات البعث عنهم اليوم امكانية وصول ممثل واحد عنهم."
منذ الاستقلال ولغاية قيام الوحدة المصرية السورية 1958 حافظت الدولة السورية على صيغتها التعددية بديمقراطية ناشئة، لم يتعرض الكرد فيها لأي شكل فاحش من التمييز أوالعسف.
في دولة الوحدة المصرية السورية سنة 1958 أضيفت الصفة العربية إلى اسم الدولة ، غابت فيها الديمقراطية بقوانين الطوارىء والأحكام العرفية بحجة حالة الحرب مع إسرائيل. فكان بداية نشوء النظام الدكتاتوري. وبوصول عسكر البعث إلى السلطة بانقلاب آذار 1963 ، توسعت سياسات التمييز تعسفا بحق الكرد عندما أرسلت حكومة البعث الأولى نخبة من الجيش السوري لنجدة الحكومة العراقية التي كانت تشن حربا على أكرادها 1963.
* تبنى البعث سنة 1963 وثيقة من 12 مادة تستهدف القضاء على الوجود الكردي في سوريا بسلسلة من القوانين من خزان الفكر العنصري ..
* في سنة 1964 نشرت سلطة البعث، بصيغة انتقائية نتائج الإحصاء الذي أجري سنة 1962 عرفيا، جردت بموجبه عشوائيا عشرات الآلاف من الكرد من جنسيتهم السورية وبالتالي من سائر حقوق المواطنة ومن ملكياتهم ومن انسانيتهم.
أن استمرار التعامل مع الجماعة الكردية في سوريا باعتبارها أقلية عددية في كيان الدولة ـ الاصطناعي أصلا ـ تقفز من فوق حقيقة أن الكرد أكثرية مطلقة في هذا الجزء من أرضهم التاريخية بهويتهم القومية وحقوقهم التاريخية يستحقون حسب شرعة حقوق الإنسان المساواة الدستورية بالجماعة العربية على أكثريتها.
أن أحلام الكرد الشرعية بوطن وعلم ومدارس وكتب بلغتهم لا يمكن لها أن تصبح حاجزا بينهم والشعوب التي يعيشون معها في فضاءات الشرق الأوسط بكياناتها الحالية اذا قامت على المساواة والحرية والاعتراف المتبادل المتكافىء. كما لا يجوز للآخر أن يشترط لهذه المساواة أن ينزع الكرد جلودهم وأحلامهم وحقوقهم القومية ، ليطمئن هذا الآخرعلى أحلامه القومية الخيالية أحيانا.
لا تزدهر ثقافة الديمقراطية بدون أساس متين للحريات الفردية والتعددية الثقافية والإثنية والعقائدية .
أن مشاكل الكرد والأقوام المسيطرة التي يعيشون معها مشاكل سياسية لا تفتقد حلولا إذا تحلت السياسة بالحكمة والمشاعر بالعقلانية. ونبذ الطرفان الرباط العنصري لصالح الإجتماع الإنساني في بهائه الثقافي.
الأوطان أراض وفضاءات يتحرر البشر فيها من عبودية الطبيعة والتخلف بالتعاون و بالعيش المشترك وهي ليست مزارع إقطاعية أبدية يورثها قوم دون غيرهم وهي تصبح معازل قروسطية بالسياسات العنصرية الإلغائية في حين أنها تزدهر إذا تحولت إلى فضاءات للشعوب والأقوام والثقافات القائمة بالإضافات الحضارية المتنوعة لخير أجيال وأجيال ستأتي وتضيف.
أخيرا، أيتها السيدات والسادة، تعلمنا حكمة التاريخ أن التعصب القومي وسياسات التمييز العنصري والكراهية، مرض عقلي يفضي بصاحبه إلى الفاشية وبالإنسانية إلى المآسي فهل من يرتدع بحكمة آلهة الأولمب؟
* مداخلة في كونفرانس حول القضية الكردية في سورية، في البرلمان الفرنسي بتاريخ 1/12/2005