من هو المثقف ؟ هو الشخص الذي امتلك علما وثقافة وفكرًا ، تمايز به عن أفراد مجتمعه ، وباتت لديه رؤية شاملة أو جزئية لعلاج مشكلات هذا المجتمع .
في إطار هذا التعريف ، يكون المثقف الآن في مجتمعاتنا من فئة العلماء ونخبة المفكرين والباحثين في الجامعات ، ومراكز البحث ، والصحافة ووسائل الإعلام ، وغيرهم من المثقفين الذين امتلكوا رصيدا كبيرا في العلم والمعرفة، ويساهمون بالفكر والتأليف من أجل نهضة المجتمع .
( 1 )
للمثقف دوران ؛ دور علمي توعوي : قائم على نشر فكره وعلمه في إطار تخصصه ، أو في التخصص الأشمل لتخصصه ، فعالم السياسة – مثلا- دوره نشر الفكر السياسي ، وتوعية طلابه وباحثيه ( وهم الدائرة الضيقة حوله ) بهذا الفكر ، ثم إفادة فئات المجتمع المختلفة ( الدائرة الأوسع ) من خلال وسائل الإعلام بأنواعها كافة ، بفكره ، وأهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان .. إلخ .
ودور نهضوي تغييري : يتمثل في اتخاذ مواقف مستقلة وثابتة بشأن مشكلات وقضايا الوطن ، بهدف وضع حلول جذرية ، والاعتراض على سياسات متخذة ، ومن ثم إظهار الصحيح للناس ما تمكن إلى ذلك ، وهؤلاء هم المثقفون الواقفون؛ في إباء وعزة وثقافة ، ويبثّون وعيا وتغييرا .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المثقفين ينقسمون – من منظور تلقي العلم وبثّه - إلى صنفين : صنف له رؤية شمولية لقضايا الثقافة والفكر ، تتخطى دائرة تخصصاتهم ، وتتسع باتساع القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية ، هؤلاء يكدّون في متابعة العلم في إطار تخصصهم ، ويساهمون في قضايا الوطن ، ويتخذون المواقف الثابتة ضد بطش الحكام ، ويقفون مع أبناء الشعب في محنهم . وصنف آخر : غارق في دائرة تخصصه ، لا يتخطاها إلى غيرها ، مشغول بنفسه، وبأسرته ، ما يعني بعبارة أدق: يسير بجوار الحائط ؛ يؤثر السلامة ، ويفضل العزلة ، ويقنع بما هو فيه .
إن الصنف الأول – للأسف – صاروا قلة في مجتمعاتنا بفعل الأنظمة المستبدة الشمولية ، التي سيطرت على مراكز البحث والتعليم والصحافة ، فأخرجت أجيالا من الباحثين والمثقفين الخائفين ، الخانعين ، الباحثين عن لقمة العيش ، المؤثرين الدعة والاطمئنان الزائفين ، فهؤلاء الصنف الثاني ، هم المثقفون القاعدون في الظل ، سعداء بخفوت الأضواء من حولهم ، طامحون إلى تربية عيالهم ، وتأمين مستقبلهم .
يستوي في هذا الأمر علماء الدين ، وعلماء الدنيا ( إن جاز التعبير ) ، فكما نعلم أن هناك علماء دين يضيئون الحياة بأفكارهم ، ومن الممكن أن نطلق عليهم العلماء الدعاة ، يتكلمون بما يفهم الناس ، ويسعون إلى التغيير المجتمعي وتربية النفوس ، وتنوير الناس بقضايا المجتمع والإنسان . هناك – أيضا – علماء دين غارقون في كتبهم ، إذا تحدثوا تفوهوا بما لا يفهمه الناس ، ونحن نسمع بعضهم في إذاعات القرآن الكريم ، فنفاجئ بأن العالِمَ يتكلم بنفس التراكيب اللغوية لما درسه في الكتب القديمة أو لغة البحوث المحكمة .
( 2 )
في الماضي ، كانت الحكومات حريصة على استقطاب عدد من المثقفين والعلماء ، من أجل الترويج للأنظمة ، ومدح الحكام ، وفي سبيل ذلك ، كانت الحكومات تغدق على هؤلاء المناصب والمزايا .
والآن نجد العلماء والباحثين قد صاروا موظفين ضمن جهاز الدولة البيروقراطي ، فتلاشت استقلاليتهم المادية والمعنوية .
في الماضي ، إبّان حكم الدولة الإسلامية على اختلاف عهودها ، كانت هناك أوقاف خاصة بالمدارس والمساجد والقضاة ، لا تقترب منها الدولة ، ولا ينهبها الحاكم ، فكان العالِم مستقلا ماديا ومعنويا عن الدولة ، يقول ما يشاء دون توقع خصما من راتبه أو فصلا من عمله أو إحالته للتحقيق .
الآن ، صارت فئة من العلماء والمثقفين راكضين للسلطة ، ساعين لها بكل السبل ، يتملقون الرؤساء ، ينافقون ضباط الأمن ، يخافون من سلطة الرقيب ، ويسعون للانتساب للأحزاب الحاكمة ، رغبة في المناصب ، وأملا في الفوز بقربى من أذناب الحكام ، ربما توصلهم لمنصب ما ، فهؤلاء هم المثقفون المنبطحون في كراسي المناصب أو في انتظار كراسي المناصب .
وقد أساءت الحكومات صنعا ، عندما جعلت المناصب الأكاديمية والإعلامية بالتعيين المباشر ، بحجة منع الصراعات بين أساتذة الجامعات ، والحفاظ على هيبة الوسط الجامعي بين الطلاب ، فازداد تدجين العلماء ، وصار هدفهم إرضاء رجال الأمن ، لأنهم كتبة تقارير الولاء السياسي والأمني لسدنة الحكم ، وبعضهم يقدم خدمات مجانية من قبيل الإرشاد عن الطلاب المعارضين ، والأساتذة المناوئين ، الذين يؤلفون البحوث المناهضة لفكر نظام الحكم .
( 3 )
إن أكثر ما يحزن القلوب أننا نرى علماء ومفكرين احتلوا ببدلاتهم الأنيقة ، شاشات التلفاز ، يتحدثون بأن الحكومة أصابت في تعديل الدستور ، وأنهم أدرى بمصلحة الشعب ، وأن هذه نقلة كبرى للديمقراطية ، ولولا منة الحاكم على شعبه لظل الشعب في ظلام دامس .
كونهم يدافعون فهذا متوقع ، وكونهم يبررون أيضا متوقع ، ولكن المصيبة أنهم إذا غيّر الحاكم فجأة قراراته ، وجاء بما كان عكسه ، انقلبوا وصاروا يدافعون أيضا ، والمصيبة الأكبر أنهم – في أغلبيتهم – رجال قانون ، ومفكرون سياسيون، أتعبونا ليلا ونهارا بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وعندما اقتربوا من مراكز صنع القرار ، ترحمنا- نحن الشعوب- على القرارات السابقة على وجودهم في السلطة ، بل على الأشخاص السابقين عليهم .
والنتيجة : فقد المثقفون المنبطحون احترام الناس ، وأفقدوا الناس احترام الباحثين والمفكرين ، وقدموا للحكومات هدايا مجانية ممثلة في أختام علمية على بياض للقرارات الممجدة لبقاء الحاكم ، وتقنين استبداده .
( 4 )
المثقف موقف ، المثقف كلمة ، المثقف إنسان يموت ، فإما ثناء حسن أو لعنات