أعترف بأنني لم أعد أحتمل الحياة، وروتينها، الأيام تبدو طويلة، و أعد الدقائق والثواني على أصابعي، وأدونها على أوراقي البيضاء، وأسجل مذكراتي وأحزاني...
إنني أشعر بخيبة أمل، من كل الذين حولي، وأشعر بالعجز كلما تحدثوا إلي وأخبروني بصراحة عن عجزي، أعترف أنني لن أستطيع إعادة ما يقولونه بالطريقة التي يتحدثون بها، أنهم بما يملكونه من زخم في كلماتهم يستطيعون أن يخبرونكم بكل شيء..
الحياة عادية، تسير بنا، اليوم استيقظت لأجد أولاد جيراننا يركبون الحافلة في طريقهم إلى المدرسة، وتلك ابنة الجيران، لقد اعتادت الاستيقاظ صباحا، لتطعم دجاجاتها، وتنثر الحب في سعادة، تبدو الحياة في مفهومها بسيطة، هي لا تتوق إلا إلى عالم كبيرا من الدجاجات وثوبا ريفيا مزركشا، أحلامها بسيطة جدا، أريد أن أكون مثلها هكذا، أريد حياة بسيطة وجميلة، أن يكون لدي زوج وطفل، وبيتا صغيرا..
إن الحياة مليئة بالخيبة، هل تعلمون ما معنى خيبة الأمل؟ أن تواجه الفشل في حياتك؟ رغم انك ربما لا تزال صغير السن، ولكن هذه الخيبة تقترن بك منذ طفولتك، هكذا صنعت مني هذه الخيبة انسانة منعزلة، تعيسة، وغريبة الأطوار لا أحد يحبني، وليست لدي صديقات، لقد نشأت في منزلا صغيرا، كان لدي أخوة وأب وأم، إنها عائلة، وربما العائلة في نظركم هي رمز الحنان والأمان، إنكم تحبون أن تصفون الحياة بتلك الكلمات، بينما أنا كرهت كل تلك الكلمات العظيمة، عن الخير والشر ، الجمال والقبح، الحزن والسعادة، الأمل والألم، كلها كلمات موجودة في قواميس الشر، ويتعاملون بها فيما بينهم، ولكن في أحيان قد يطغى شعور مكان شعور آخر، يعني شعور الشر قد يتفوق على شعور الخير، من هنا تأتي خيبة الأمل ، والناس يتعاملون بينهم بهذه الكلمات الكثيرة والعديدة في حياتهم اليومية، واعترف إنني في أحيان كثيرة لم تكن تهمني تلك الكلمات ولا تلك العواطف التي تحملها تلك الكلمات، ربما لأنني فيما بعد فقدت شعوري بتلك الأحاسيس ولم يعد لها قيمة في حياتي،أول خيبة أمل في حياتي كانت عائلتي، لقد لفظتني، ككلب أجرب، يعاني من مرض مزمن لا علاج له، لم استطع التكيف مع أخوتي، كانت المفاهيم لديهم كباقي البشر، مفاهيم في الأموال وحب الحياة والتعلق بها، الغدر والظلم والقهر، نعم هذه خيبة الأمل الأولى هي سبب معاناتي في الحياة، هي سبب عجزي وقهري، وإحساسي بالألم و التعاسة والدونية، أتذكر بكل وضوح، وبوضوح مرعب كلماتهم بأنه لا قيمة لي في هذه الحياة رغم التضحيات والتفوق، رغم كل شيء، أتذكر تلك الكلمات وبدقة متناهية، وأعرف أية مشاعر انتابتني، أحسست في تلك اللحظات بأن ما حدث من حولي شيء مدمر..
والآن أنا أعيش تلك اللحظات، أعيشها ولا أتوقع أسوأ من هذا الذي حدث في طفولتي، هذا كل شيء، كنت أتوق إلى الحياة في بداياتي الأولى، وكان عشقي للكتابة وللقراءة، شيئين أعترف أنهما قد خففا من شعوري بوطأة هذه الحياة..
والواقع إنني كنت أتوق إلى حياة جميلة ورائعة وكنت أتوقع من الناس أمورا كثيرة، الحب والحنان، أو ربما كنت أحتاج إلى ضربة حظ، أو إلى أي شيء..
إنني حقا أدور في دوامة لا حدود لها، وأكره تلك الانفعالات البشرية التي تدور في داخلي سواء من غضب وكراهية وحزن وضيق، أحيانا يتوقع جميع من حولي بأن مخيلتي تختلق الأحداث وترسم صورة مرعبة عن طفولتي، ولكن في داخلي تصور كبير وإحساس أحيانا غير واضح، بأن هناك خيبات أمل كثيرة وكوارث سوف تحدث في حياتي، هذا إذا استمررت فعلا في الحياة، قد تستغربون من حديثي هذا، ومن سردي لأحزاني وخيبات أملي، ولكنني كنت أعوض هذا الحزن الدفين في القراءة والكتابة، وكان عالم الكتب رائعا، لقد تعلمت الكثير من الكلمات والتي أضفتها إلى قواميسي ، تعلمت أن أكتب الشعر، بتلك الكلمات التي تصف شعوري وإحساسي، وكنت متأكدة بأن هناك الكثير من الشعر يحمل الكثير من الكذب في طياته، ولكنه كذب جميل، يثير في داخلي شيء من البلادة الروحية، والحس الشهواني..
اندفعت في حياتي بصمت غريب، لم يكن التفوق دافعي، إنما إثبات الذات، وقهر كلمات أسرتي، في حياتي البسيطة هذه تعلمت أمور كثيرة، حتى في مجال عملي، والغريب، إنهم حتى في عملي لم يقدروني كفتاة ناجحة ومتفوقة، لقد جعلتني الكلمات أفشل، إنني الآن في الخامسة والعشرين من عمري، أجلس في المنزل ، عاطلة عن العمل، ليست لدي مهنة أزاولها سوى مهنة الخوف والترقب، كثيرا ما كنت أفكر لو حدث وطردوني من عملي، ما الذي سوف يحدث؟ ولكن لم يكن لدي الوقت لأفكر في النتائج، كنت أعمل بصمت وآكل في صمت ، وأحب في صمت، وعندما تعلمت الحديث طردوني من عملي، لقد أتقنت فن الكلمات، وأصبح لدي قاموس كبير يحتوي الكثير من الكلمات، قاموس لا أستطيع حمله من ثقله، وعندما علمت مديرتي بأنني تحدثت لم تحتمل وجودي، ولكنني الآن أنا مطرودة من عملي، إنها الحقيقة! حقيقة لابد لي أن أعيشها بكل كياني، ألا تريدون أن تصدقون إنني عايشت ما يكفي من الألم ولسنوات رغم إنها ليست طويلة، ولكنها تكفي لتثير كم هائل من الحزن في داخلي..
قبل سنوات أحببت شاب، كان رائعا، تمنيت ان أكون دوما معه، أن يكون زوجي ووالد أطفالي، ولكنه لم يبادلني هذا الشعور، واتجه إلى فتاة أخرى غيري.. هل توجد معاناة أشد من معاناتي هذه؟ أيوجد شيء أقسى من هذا الألم الذي أشعر به، ويمزقني كل لحظة؟
أيام مرت علي وأنا أفكر في حياتي، أفكر في هذا الألم العظيم الذي أشعر به، أفكر في حظي الذي عايشته، وخيبة أملي التي قادتني إلى الدونية والوحدة والانعزال عن البشر، كنت أتساءل دوما في حياتي هذه عن الحزن والفرح، مترا دفان عكس بعضهما، لقد خلق الله الإنسان في هذه الحياة، وهو يملك الخيارات في أن يعيش في السعادة أو الحزن؟ هو الذي يقرر، ولكن رغم ذلك تبقي أمورا كثيرة عائقة في طريقه في التحرر من هذا القيد، إنني اليوم أتوق إلى هذا التحرر، وأتوقع انه في حالتي هذه لن يأتي هذا الإحساس إلا بالموت...
كان هذا الشعور سرعان ما ينتابني كلما جلست أمام البحر، أنظر إلى الأفق، فأشعر بأنه يدعوني إلى التحرر، ولكنني لم يكن لدي أفق، كانت كل الزوايا في حياتي ضيقة بالكاد تكفيني وتكفي جسدي الضئيل وأفكاري التافهة، اسمعوني أرجوكم إنها الفرصة الأخيرة التي أمتلكها لأعبر عما في داخلي وألا تحطمت وصارت جثتي فتات في شوارع مدينتكم التافهة المزدحمة بأمور أنتم أنفسكم لا تفهمونها ولا تفهمون كنهها..
ربما يكون أفقي ضيقا أكثر من الناس الآخرون؟ ربما أنا غبية أو لدي فائض من الفهم، ولهذا لا أقوى على الاستمرار في هذا العالم؟ وقد أصل إلى القمة وتنتهي حياتي هذه في لحظة؟
اعرف السعادة والألم في كل أشكالها، ولقد جربتهما في حياتي وأعرف مرارة كل واحد منهما وفي درجات غير ثابتة، ليس هناك شيئا ثابت في حياتي، لا شيء، إنهم يعيشون في حياتهم في كذب، يكتبون أمورا لا أساس لها، ويصنعون لأنفسهم مجد فيه الكثير من التملق، أعترف لكم بأنني ربما كنت في يوم من الأيام مثلهم، ولكن ألا يحق لي في لحظة ان أكون سعيدة بعد كل خيبات الأمل هذه، أن أجمل تلك اللحظات، حينما أجلس وحدي أمام نافذة غرفتي أتأمل السماء، أتأملها بمزيج من الحنان والاشتياق ، إنها عالمي، حيث أبعد قليلا ناظري عن الأرض والحياة، وأعيش لحظاتي الحميمة مع السماء في لونها الأزرق الرائع، وربما هنا في هذا العالم أستطيع الدفاع عن نفسي، دون أن يسابقني هؤلاء البشر أو يتهموني بشيء، أستطيع أن أعيش بدون أن تحدث لدي خيبة أمل، أعلم عجزي في احتمال هذه الحياة، إنني لا أريد سوى التحرر من قيودهم، والسفر هناك حيث الظلام الأبدي..